ولهذه القصيدة قصة معبّرة
فبعد أن زار كاتبها بلاد الأندلس ، تجوّل في ربوعها.. زار قرطبة.. إشبيلية.. غرناطة ، طافت به ذكريات الماضي.. ماضي العزة .. ماضي الحضارة والرقي .. والعلم والعمل .
و تذ كر الأجداد ... عندما كانوا لهذه الربوع حكاماً وسادة ، وعلماء وقادة ، وضياء ونورا .. كانوا كذلك لمّا حكموها باسم الله العظيم و بشرعه المتين .
ولم يجد الشاعر رحمه الله ما يُترجم مختلجاتٍ داخله إلا القوافي .
فكانت هذه القصيدة الرائعة التي تُعبّر عن حرقة تعصر قلب صاحبها على ما ضاع من بلاد الإسلام والعروبة ، وعن مشاعر صادقة يتقاسمها معه كثير من الأبناء في هذا الزمان .
مالي وللنجم يرعاني وأرعاهُ ؟ *** أمسى كلانا يعافُ الغمضَ جفناهُ
لي فيكَ ـ ياليلُ ـ آهاتٌ أردِّدُها *** أوَّاهُ لو أجْدت المحزونَ أواه !
لا تحسبَنِّي محبًّا يشتكى وَصباً *** أهْونْ بما في سبيل الحب ألقاه !
إنى تذكرتُ ـ والذكرى مُؤَرِّقةٌ *** مجداً تليدا بأيدينا أضعناه
ويحَ العروبة ! كان الكونُ مسرحها *** فأصبَحت تتوارى في زواياه
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجدْهُ ـ كالطير ـ مقصوصاً جناحاه
كم صرفَتْنَا يدٌ كنّا نصرِّفها *** وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
كم بالعراق، وكم بالـهند ذو شجنٍ *** شكا؛ فردَّدَت الـأهرامُ شكواه !!
بنى العمومةِ إن القُرحَ مسّكموا *** ومسَّنا نحن في الآلام أشباه !
يا أهل «يثرب» أدمت مُقْلَتَيَّ يدٌ *** بدريةٌ تسأل المصريَّ جدواه
الدينُ والضادُ من مغناكم انبعثا *** فطبَّقا الشرقَ : أقصاه، وأدناه
لسنا نمدّ لكم أيماننا صلةً *** لكنما هو دَيْن ما قضيناه
هل كان دِيْن ابنِ عدنانٍ سوى فلق *** شق الوجود، وليلُ الجهل يغشاه ؟
سل الحضارة ـ ماضيها وحاضرها ـ*** هل كان يتصلُ العهدان لولاه ؟
هي الحنيفةُ عينُ اللـه تكلؤها *** فكلما حاولوا تشويهها شاهوا
هل تطلبون من المختار معجزةً؟ *** يكفيه: شعبٌ من الـأجداث أحياه
مَنْ وحد العرب حتى كان واترهم *** إذا رأى ولَدَ الموتور آخاه ؟
وكيف كانوا يداً في الحرب واحدة *** مَن خاضها باع دنياه بأخراه ؟
وكيف ساس رعاةُ الإبْل مملكة *** ما ساسَهَا قيصرٌ من قبلُ أو شاه ؟
وكيف كان لـهم علم وفلسفة؟ *** وكيف كانت لـهم سُفْن وأمواه ؟
سنُّوا المساواة: لا عُرْبٌ، ولا عجَمٌ *** ما لامرىء شرفٌ إلا بتقواه
وقرَّرتْ مبدأ الشورى حكومتُهم *** فليس للفرد فيها ما تمناه
ورحبَّ الناسُ بالإسلام حين رأوْا *** أنَّ السلام وأن العدل مغزاه
يا من رأى عُمراً: تكسوه بردتُه *** والزيتُ أدْمٌ لـه والكوخُ مأواه ؟
يهتز كسرى على كرسيِّه فرَقاً *** من بأسه وملوكُ الرومِ تخشاه ؟
سل المعاليَ عنا إننا عَرَبٌ *** شعارُنا: المجدُ يهوانا ونهواه
هي العروبة لفظ إن نطقت به *** فالشرق، والضاد، والإسلام معناه
استرشد الغربُ بالماضي، فأرشده *** ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
إنا مشَيْنا وَرَاءَ الغرب نقبس من *** ضيائه فأصابتنا شظاياه
باللـه، سل خلف بحر الروم عن عرَبٍ *** بالـأمس كانوا هنا، واليوم قد تاهوا!
فإن تراءتْ لك الحمراء عن كَثَب *** فسائل الصرحَ: أين العز والجاه؟
وانزلْ دمشق، وسائل صخر مسجدها *** عمن بناه، لعل الصخر ينعاه
وطُف ببغداد وابحث في مقابرها *** علَّ أمرأ من بنى العباس تلقاه
هذى معالم خرسٌ كلُّ واحدة *** منهنَّ قامت خطيباٍ فاغراً فاه
إنى لـأَشْعُرُ ـ إذ أغشى معالِمَهم ـ *** كأنني راهبٌ يغشى مُصلاه
اللـه يعلم ما قلَّبتُ سيرتَهُمْ *** يوماً وأخطأ دمعُ العين مجراه
أين الرشيد وقد طاف الغمام به *** فحين جاوز بغداداً تحداه؟
ملْكٌ كملك بنى «التاميز» ما غَرَبت *** شمسُ عليه، ولا برقُ تخطاه
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمَمٌ *** وتستمدُّ القوى من وحى ذكراه
لا در درُّ امرىء يُطرى أوائلـه *** فخراً، ويُطرق إن ساءلته: ما هو؟
ما بال شمل شعوبِ الضاد منصدعا؟ *** رباهُ، أدركْ شعوب الضاد، رباه!
عهد الخلافة في البسفور قد درست *** آثارُه، طيب الرحمن مثواه!
تاج أغرّ على الـأتراك تعرضه *** ما بالنا نجد الـأتراك تأباه ؟
ألم يروْ : كيف فدّاه معاويةٌ *** وكيف راح عليٌّ من ضحاياه ؟
غالَ ابنَ بنت رسول اللـه ثم عدا *** على ابن بنتِ أبى بكر فأرداه
لما ابتغى يدَها السفاحُ أمهرها *** نهراً من الدم فوق الـأرض أجراه
ما للْخلافة ذنبٌ عند شانئها *** قد يظلم السيفَ من خانته كفاه
الحكمُ يسلسُ باسم الدين جامحة *** ومن يرمُهْ بحد السيف أعياه
يا ربَّ مولى لـه الـأعناقُ خاضعةٌ *** وراهبُ الدَّير باسم الدين مولاه
إنى لـأعتبرُ الإسلام جامعةً *** للشرق لا محضَ ، دين سنهُ اللـه
أرواحنا تتلاقى فيه خافقةً *** كالنحل إذ يتلاقى في خلاياه
دستورهُ الوحي والمختارُ عاهلـهُ *** والمسلمون ـ وإن شتوا ـ رعاياه
لا هُمَّ، قد أصبحت أهواؤنا شيعا *** فامنُنْ علينا براع أنت ترضاه !
راع يعيد إلى الإسلام سيرتَهُ *** يرعى بنيه وعينُ اللـه ترعاه